فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ فَالْمَحَلُّ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَذَانُ وَيُؤَذَّنُ لَهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ، فَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْقِيَامُ، إذْ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا رُكُوعَ وَلَا سُجُودَ وَلَا قُعُودَ، فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ النَّوَافِلِ؛ وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ فَجُعِلَ أَذَانُ الْأَصْلِ أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا، وَلَا أَذَانَ، وَلَا إقَامَةَ فِي السُّنَنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا أَذَانَ، وَلَا إقَامَةَ فِي الْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا فَكَانَ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ، فَكَانَ تَبَعًا لَهَا فِي الْأَذَانِ كَسَائِرِ السُّنَنِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ غَيْرُ الْمَكْتُوبَةِ وَالْأَذَانُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ»؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ الْجَمَاعَةُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِنَّ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَالْجُمُعَةُ فِيهَا أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ؛ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَالْجُمُعَةُ قَائِمَةٌ مُقَامَهُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: الْفَرْضُ هُوَ الْجُمُعَةُ ابْتِدَاءً وَهِيَ آكَدُ مِنْ الظُّهْرِ، حَتَّى وَجَبَ تَرْكُ الظُّهْرِ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ إنَّهُمَا وَجَبَا لِإِقَامَةِ الظُّهْرِ، فَالْجُمُعَةُ أَحَقُّ، ثُمَّ الْأَذَانُ الْمُعْتَبَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى بِهِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ، وَتَجِبُ الْإِجَابَةُ وَالِاسْتِمَاعُ لَهُ دُونَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْمَنَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ يَقَعُ بِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَذَانًا وَاحِدًا حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَذَانِ الثَّانِي عَلَى الزَّوْرَاءِ» وَهِيَ الْمَنَارَةُ، وَقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ تُؤَدَّى مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُرَاعَى لِلْعَصْرِ أَذَانٌ عَلَى حِدَةٍ، لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ أَذَانُ الظُّهْرِ وَإِقَامَتُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بِإِقَامَتَيْنِ، وَفِي الثَّانِي يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحَقُّقِ الْجَمَاعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، فَيُنْدَبُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَوَاتِ الْجَهْرِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ،.
أَشَارَ إلَى أَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ وَإِقَامَتَهُمْ وَقَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَيِّ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْضُرَ مَسْجِدَ الْحَيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ فِي مَنْزِلٍ أَوْ فِي مَسْجِدِ مَنْزِلٍ، فَأُخْبِرُوا بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ- أَجْزَأَهُمْ.
وَقَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمَا، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ يَكُونُ أَذَانًا لِلْأَفْرَادِ وَلَا يَكُونُ أَذَانًا لِلْجَمَاعَةِ، هَذَا فِي الْمُقِيمِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا، وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَالسَّفَرُ لَمْ يُسْقِطْ الْجَمَاعَةَ فَلَا يُسْقِطْ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا، فَإِنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ وَأَقَامُوا وَتَرَكُوا الْأَذَانَ- أَجْزَأَهُمْ وَلَا يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا تَرَكُوا الْأَذَانَ وَأَقَامُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ.
وَقَدْ أَثَّرَ فِي سُقُوطِ شَطْرٍ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ أَحْدِ الْأَذَانَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْإِقَامَةَ آكَدُ ثُبُوتًا فَيَسْقُطُ شَطْرُ الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُسَافِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذَّنَ، وَأَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِهُجُومِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَحْضُرُوا، وَالْقَوْمُ فِي السَّفْرِ حَاضِرُونَ فَلَمْ يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، بِخِلَافِ الْحَضَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِرَفِ وَالْمَكَاسِبِ لَا يَعْرِفُونَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ، فَيُكْرَهُ تَرْكُ الْإِعْلَامِ- فِي حَقِّهِمْ- بِالْأَذَانِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ فَإِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ، وَالْمُقِيمُ إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ فَتَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَا يُكْرَهُ (وَالْفَرْقُ) أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَقَعُ أَذَانًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَكَأَنَّهُ وُجِدَ الْأَذَانُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ تَقْدِيرًا، فَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْمُسَافِرِ مِنْ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ الْأَذَانُ فِي حَقِّهِ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فلابد مِنْ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ هَلْ يُكْرَهْ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامُ فِيهِ ثَانِيًا؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ مَسْجِدًا لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ: فَإِنْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ بِأَنْ كَانَ عَلَى شَوَارِعِ الطَّرِيقِ- لَا يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَكْرَارَ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ هَلْ يُكْرَهُ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً، فَأَمَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً فَقَامُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ لَا يُكْرَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا يُكْرَهُ.
(احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ دَخَلَ رَجُلٌ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَامَ وَصَلَّى مَعَهُ» وَهَذَا أَمْرٌ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ، وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَ بِالْمَكْرُوهِ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى أَنَّ النَّاسَ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فِي الْبُيُوتِ وَعَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ أَثِمُوا وَخُوصِمُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتَرْكِهِمْ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ صَلَّوْا فُرَادَى فِي الْمَسَاجِدِ أَثِمُوا بِتَرْكِهِمْ الْجَمَاعَةَ، وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ مَا قَضَوْا حَقَّ الْمَسْجِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَلَا يُكْرَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي مَسَاجِدِ قَوَارِعِ الطُّرُقِ، كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ لِتَشَاجُرٍ بَيْنَهُمْ فَرَجَعَ وَقَدْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِ بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً، وَلَوْ لَمْ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِد.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمْ الْجَمَاعَةُ فَيَسْتَعْجِلُونَ فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ فَتَقِلُّ الْجَمَاعَةُ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا أَهْلٌ مَعْرُوفُونَ، فَأَدَاءُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ أَذَانَ الْمُؤَذِّن الْمَعْرُوفِ فَيَحْضُرُونَ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَسْجِدِ لَمْ يُقْضَ بَعْدُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّهِ عَلَى أَهْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرَمَّةَ وَنَصْبَ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ؟ وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَظِرُوا حُضُورَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ وَاحِدًا وَذَا لَا يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنْ فَاتَهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَاهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَكَذَا إذَا فَاتَتْ الْجَمَاعَةَ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَوْهَا بِالْجَمَاعَةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: يُصَلِّي بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يُصَلِّي بِالْإِقَامَةِ لَا غَيْرُ.
(احْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَضَاهُنَّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ.
وَرُوِيَ فِي قِصَّةِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ وَصَلُّوا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَا حَاجَةَ هاهنا إلَى الْإِعْلَامِ بِهِ.
(وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَقَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسْنَا فَمَا اسْتَيْقَظْنَا حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَثِبُ دَهْشًا وَفَزَعًا، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ارْتَحِلُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي فَإِنَّهُ وَادِي شَيْطَانٍ، فَارْتَحَلْنَا وَنَزَلْنَا بِوَادٍ آخَرَ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَقَضَى الْقَوْمُ حَوَائِجَهُمْ أَمَرَ بِلَالًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ»، وَهَكَذَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمْ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ قَضَاهُنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ.
وَقَدْ فَاتَتْهُمْ الصَّلَاةُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَتُقْضَى كَذَلِكَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحَدِيثِ التَّعْرِيسِ وَالْأَحْزَابِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ أَذَّنَ هُنَاكَ وَأَقَامَ عَلَى مَا رَوَيْنَا.
وَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فَإِنْ أَذَّنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَأَقَامَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْبَوَاقِي فَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى، خُصُوصًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَأَدَاءُ الظُّهْرِ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ فِي الْمِصْرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَوَقْتُهُمَا مَا هُوَ وَقْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، حَتَّى لَوْ أَذَّنَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِئُهُ وَيُعِيدُهُ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَخِيرًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذَّنَ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ السَّحُورِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ»؛ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ، وَفِي مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْحَرَجِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رَوَى شَدَّادُ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا»، وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَالْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَذِبٌ، وَكَذَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتَ نَوْمِهِمْ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ تَهَجَّدَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ إذَا سَمِعَ مَنْ يُؤَذِّن قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ: عُلُوجٌ فِرَاغٌ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْوَقْتِ، لَوْ أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ، وَبِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ لِمَعَانٍ أُخَرَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ السَّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ وَيَرُدَّ قَائِمَكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صَائِمُكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ».
وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ يَتَهَجَّدُونَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، وَفِرْقَةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَكَانَ الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كَانَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُعِيدُهُ ثَانِيًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْفَجْرَ الصَّادِقَ الْمُسْتَطِيرَ فِي الْأُفُقِ مُسْتَبِينٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِجَابَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ: مَنْ بَالَ قَائِمًا، وَمَنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَلَمْ يُجِبْ، وَمَنْ سَمِعَ ذِكْرِي وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ»، وَالْإِجَابَةُ: أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ إلَّا فِي قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَإِنَّهُ يَقُولُ مَكَانَهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ ذَلِكَ تُشْبِهُ الْمُحَاكَاةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ لَا يُعِيدُهُ السَّامِعُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، أَوْ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ السَّامِعُ فِي حَالِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ سِوَى الْإِجَابَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ وَيَشْتَغِلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِجَابَةِ، كَذَا قَالُوا فِي الْفَتَاوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْجَمَاعَةُ:

(وَالثَّانِي): الْجَمَاعَةُ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَفِي بَيَانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا:
إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»، جَعَلَ الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الرُّكُوعِ، فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ.
(وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ»، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.
(وَأَمَّا) تَوَارُثُ الْأُمَّةِ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاظَبَتْ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهَا، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ، وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ، خُصُوصًا مَا كَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ فَقَالَ: الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عَنْهَا إلَّا لِعُذْرٍ؟ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ: فَالْجَمَاعَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ، الْعَاقِلِينَ، الْأَحْرَارِ، الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِين، وَالْعَبِيدِ، وَالْمُقْعَدِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْمَرِيضِ.
(أَمَّا) النِّسَاءُ فَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِتْنَةٌ.
(وَأَمَّا) الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ مَوَالِيهِمْ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ الْمُسْتَحَقَّةِ وَأَمَّا الْمُقْعَدُ وَمَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ.
(وَأَمَّا) الْأَعْمَى فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعَ حُجَجِهَا تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.